قصة أبي جعفر وقصة
الحزامي
من كتاب البخلاء للجاحط
قصة أبي جعفر
ولم أر مثل أبي جعفر الطرسوسي: زار قوماً فأكرموه وطيبوه، وجعلوا
في شاربه وسبلته غالية. فحكته شفته العليا، فأدخل إصبعه فحكها من باطن الشفة،
مخافة أن تأخذ إصبعه من الغالية شيئاً، إذا حكها من فوق! وهذا وشبهه إنما يطيب
جداً إذا رأيت الحكاية بعينك، لأن الكتاب لا يصور لك كل شيء، ولا يأتي لك على
كنهه، وعلى حدوده وحقائقه.
قصة الحزامي
وأما أبو محمد الحزامي، عبد الله بن كاسب، كاتب مويس، وكاتب داود
بن أبي داود، فإنه كان أبخل من برأ الله، وأطيب من برأ الله. وكان له في البخل
كلام. وهو أحد من ينصره ويفضله، ويحتج له، ويدعو إليه.
وإنه رآني مرة في تشرين الأول، وقد بكر البرد شيئاً. فلبست كساء لي
قومسياً خفيفاً، قد نيل منه. فقال لي: ما أقبح السرف بالعاقل، وأسمج الجهل
بالحكيم! ما ضننت أن إهمال النفس وسوء السياسة بلغ بك ما أرى! قلت: وأي شيء أنكرت
منا مذ اليوم؟ وما كان هذا قولك فينا بالأمس. فقال: لبسك هذا الكساء قبل أوانه.
قلت: قد حدث من البرد بمقداره. ولو كان هذا البرد الحادث في تموز وآب لكان إباناً
لهذا الكساء. قال: إن كان ذلك كذلك، فاجعل بدل هذه المبطنة جبة محشوة؛ فإنها تقوم
هذا المقام، وتكون قد خرجت من الخطأ. فأما لبس الصوف اليوم، فهو اليوم غير جائز.
قلت: ولم؟ قال: لأن غبار آخر الصيف يتداخله، ويسكن في خلله. فإذا
أمطر الناس، وندى الهواء، وابتل كل شيء، ابتل ذلك الغبار. وإنما الغبار تراب، إلا
أنه لباب التراب. وهو مالح، ويتقبض عند ذلك عليه الكساء ويتكرش؛ لأنه صوف، فينضم
أجزاؤه عليه، فيأكله أكل القادح، ويعمل فيه عمل السوس. ولهو أسرع فيه من الأرضة في
الجذوع النجرانية! ولكن أخر لبسه؛ حتى إذا أمطر الناس، وسكن الغبار، وتلبد التراب،
وحط المطر ما كان في الهواء من الغبار، وغسله وصفاه، فالبسه حينئذ على بركة الله!
وكان يقع إلى عياله بالكوفة كل سنة مرة، فيشتري لهم من الحب مقدار طبيخهم، وقوت
سنتهم. فإذا نظر إلى حب هذا، وإلى حب هذا، وقام على سعر، اكتال من كل واحد منها
كيلة معلومة، ثم وزنها بالميزان، واشترى أثقلها وزناً. وكان لا يختار على البلدي
والموصلي شيئاً، إلا أن يتقارب السعر. وكان على كل حال يفر من الميساني، إلا أن
يضطر إليه، ويقول: هو ناعم ضعيف، ونار المعدة شيطان! فإنما ينبغي لنا أن نطعم
الحجر وما أشبه الحجر! وقلت له مرة: أعلمت أن خبز البلدي ينبت عليه شيء شبيه
بالطين والتراب والغبار المتراكم؟ قال: حبذا ذلك من خبز! وليته قد أشبه الأرض
بأكثر من هذا المقدار! وكان إذا كان جديد القميص ومغسوله، ثم أتوه بكل بخور في
الأرض، لم يتبخر، مخافة أن يسود دخان العود بياض قميصه. فإن اتسخ فأتى بالبخور، لم
يرض بالتبخر واستقصاء ما في العود من القتار، حتى يدعو بدهن، فيمسح به صدره وبطنه
وداخلة إزاره. ثم يتبخر، ليكون أعلق للبخور! وكان يقول: حبذا الشتاء، فإنه يحفظ
عليك رائحة البخور، ولا يحمض فيه النبيذ إن ترك مفتوحاً، ولا يفسد فيه مرق إن بقي
أياماً.
وكان لا يتبخر إلا في منازل أصحابه. فإذا كان في الصيف، دعا بثيابه
فلبسها على قميصه، لكيلا يضيع من البخور شيء.
وقال مرة: إن للشيب سهكة. وبياض الشعر هو موته، وسواده حياته: ألا
ترى أن موضع دبرة الحمار الأسود لا ينبت إلا أبيض! والناس لا يرضون منا في هذا
العسكر إلا بالعناق واللثام، والطيب غال، وعادته رديئة! وينبغي لمن كان أيضاً عنده
أن يحرسه ويحفظه من عياله. وإن العطار ليختمه على أخص غلمانه به.
فلست أرى شيئاً هو
خير من اتخاذ مشط صندل؛ فإن ريحه طيبة. والشعر سريع القبول منه! وأقل ما يصنع أن
ينفي سهك الشيب. فصرنا في حال لنا ولا علينا.
فكان عطر الحزامى إلى أن فارق الدنيا مشط صندل، إلا أن يطيبه صديق.
واستلف منه على الأسواري مائة درهم. فجاءني وهو حزين منكسر. فقلت
له: إنما يحزن من لا يجد بداً من إسلاف الصديق، مخافة ألا يرجع إليه ماله، ولا يعد
ذلك هبة منه؛ أو رجل يخاف الشكية، فهو إن لم يسلف كرماً، أسلف خوفاً. وهذا باب
الشهرة فيه قرة عينك. وأنا واثق باعتزامك وتصميمك، وبقلة المبالاة بتخيل الناس لك.
فما وجه انكسارك واغتمامك؟ قال: اللهم غفراً! ليس ذاك بي. إنما في أني قد كنت أظن
أن أطماع الناس قد صارت بمعزل عني، وآيسة مني، وأني قد أحكمت هذا الباب وأتقنته،
وأودعت قلوبهم اليأس، وقطعت أسباب الخواطر. فأراني واحداً منهم! إن من أسباب إفلاس
المرء طمع الناس فيه؛ لأنهم إذا طمعوا فيه احتالوا له الحيل، ونصبوا له الشرك.
وإذا يئسوا منه فقد أمن. وهذا المذهب من على استضعاف شديد. وما أشك أني عنده غمر،
وأني كبعض من يأكل ماله، وهو مع هذا خليط وعشير.
وإذا كان مثله لم يعرفني، ولم يتقرر عنده مذهبي، فما ظنك بالجيران؟
بل ما ظنك بالمعارف؟ أراني أنفخ في غير فحم، وأقدح بزند مصلد! ما أخوفني أن أكون
قد قصد إلي بقول! ما أخوفني أن يكون الله في سمائه قد قصد إلى أن يفقرني! قال:
ويقولون: ثوبك على صاحبك أحسن منه عليك! فما يقولون إن كان أقصر مني؟ أليس يتخيل
في قميصي؟ وإن كان طويلاً جداً، وأنا قصير جداً فلبسه، أليس يصير آية للسابلين؟
فمن أسوأ أثراً على صديقه ممن جعله ضحكة للناس؟ ما ينبغي لي أن أكسوه حتى أعلم أنه
فيه مثلي. ومتى يتفق هذا، وإلى ذلك محيى وممات.وكان يقول: أشتهي اللحم الذي قد
تهرأ، وأشتهي أيضاً الذي فيه بعض الصلابة.
وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال: أشتهي لحم دجاجتين. قال: وما
تصنع بذلك القائل؟ هو ذا أنا أشتهي لحم دجاجتين، واحدة خلاسية مسمنة، وأخرى
خوامزكه رخصة.
وقلت له مرة: قد رضيت بأن يقال: عبد الله بخيل؟ قال: لا أعدمني
الله هذا الاسم! قلت: وكيف؟ قال: لا يقال: فلان بخيل إلا وهو ذو مال. فسلم إلى
المال، وادعني بأي اسم شئت! قلت: ولا يقال أيضاً: فلا سخي إلا وهو ذو مال. فقد جمع
هذا الاسم الحمد والمال، واسم البخل يجمع المال والذم. فقد أخذت أخسهما وأوضعهما.
قال: وبينهما فرق. قلت: فهاته. قال: في قولهم: بخيل، تثبيت لإقامة
المال في ملكه. وفي قولهم: سخي، إخبار عن خروج المال من ملكه. واسم البخيل اسم فيه
حفظ وذم، واسم السخي اسم فيه تضييع وحمد. والمال زاهر نافع، مكرم لأهله معز.
والحمد ريح وسخرية، واستماعك له ضعف وفسولة. وما أقل غناء الحمد
والله عنه، إذا جاع بطنه، وعري جلده، وضاع عياله، وشمت به من كان يحسده! وكنا عند
داود بن أبي داود بواسط، أيام ولايته كسكر! فأتته من البصرة هدايا فيها زقاق دبس.
فقسمها بيننا. فكل ما أخذ منها الحزامى أعطى غيره. فأنكرت ذلك من مذهبه، ولم أعرف
جهة تدبيره. فقلت للمكي: قد علمت أن الحزامى إنما يجزع من الإعطاء، وهو عدو. فأما
الأخذ فهو ضالته وأمنيته! وإنه لو أعطى أفاعى سجستان، وثعابين مصر، وحيات الأهواز،
لأخذها، إذا كان اسم الأخذ واقعاً عليها! فعساه أراد التفضيل في القسمة. قال: أنا
كاتبه، وصداقتي أقدم. وما ذلك به. هاهنا أمرا ما نقع عليه. فلم يلبث أن دخل علينا.
فسألته عن ذلك. فتعصر قليلاً. ثم باح بسره. قال: وضيعته أضعاف ربحه. وأخذه عندي من
أسباب الإدبار. قلت: أول وضائعه احتمال السكر. قال: هذا لم يخطر لي قط على بال.
قلت: فهات إذا ما عندك.
قال: أول ذلك كراء
الحمال. ثم هو على خطر حتى يصير إلى المنزل. فإذا صار إلى المنزل، صار سبباً لطلب
العصيدة والأرز والبستندود. فإن بعته فراراً من هذا صيرتموني شهرة، وتركتموني عنده
آية. وإن أنا حبسته ذهب في العصائد وأشباه العصائد. وجذب ذلك شراء السمن، ثم جذب
السمن غيره، وصار هذا الدبس أضر علينا من العيال.
وإن أنا جعلته نبيذاً، احتجت إلى كراء القدور، وإلى شراء الحب،
وإلى شراء الماء، وإلى كراء من يوقد تحته، وإلى التفرغ له. فإن وليت ذلك الخادم
اسود ثوبها، وغرمنا ثمن الأشنان والصابون، وازدادت في الطمع، على قدر الزيادة في
العمل. فإن فسد ذهبت النفقة باطلاً، ولم نستخلف منها عوضاً، بوجه من جميع الوجوه.
لأن خل الداذي يخضب اللحم، ويغير الطعم، ويسود المرق، ولا يصلح إلا للاصطباغ. وهذا
إذا استحال خلاً. وأكثر ذلك أن يحول عن النبيذ، ولا يصير إلى الخل. وإن سليم – وأعوذ بالله! – وجاد وصفا، لم نجد بداً من
شربه، ولم تطب أنفسنا بتركه.
فإن قعدت في البيت أشرب منه، لم يمكن إلا بترك سلاف الفارسي
المعسل، والدجاج المسمن، وجداء كسكر، وفاكهة الجبل، والنقل الهش، والريحان الغض،
عند من لا يغيض ماله، ولا تنقطع مادته، وعند من لا أبالي على أي قطرية سقط؛ مع فوت
الحديث المؤنس، والسماع الحسن.
وعلى أني إن جلست في البيت أشربه، لم يكن لي بد من واحد. وذلك
الواحد لابد له من دريهم لحم، ومن طسوج نقل، وقيراط ريحان؛ ومن أبزار للقدر، ومن
حطب للوقود. وهذا كله غرم. وهو بعد هذا شؤم وحرفة، وخروج من العادة الحسنة.
فإن كان ذلك النديم
غير موافق، فأهل الحبس أحسن حالاً مني. وإن كان – وأعوذ بالله! – موافقاً، فقد فتح الله على مالي باباً من التلف؛ لأنه حينئذ يسير
في مالي كسيري في مال من هو فوقي.
وإذا علم الصديق أن عندي داذياً أو نبيذاً، دق الباب دق المدل. فإن
حجبناه فبلاء، وإن أدخلناه فشقاء. وإن بدا لي في استحسان حديث الناس كما يستحسن
مني من أكون عنده، فقد شاركت المسرفين، وفارقت إخواني من المصلحين، وصرت من ألوان
الشياطين.
فإذا صرت كذلك، فقد ذهب كسبي من مال غيري، وصار غيري يكتسب مني.
وأنا لو ابتليت بأحدهما لم أقم له، فكيف إذا ابتليت بأن أعطي ولا آخذ! أعوذ بالله
من الخذلان بعد العصمة، ومن الحور بعد الكور! لو كان هذا في الحداثة كان أهون.
هذا الدوشاب دسيس من الحرفة، وكيد من الشيطان، وخدعة من الحسود!
وهو الحلاوة التي تعقب المرارة! ما أخوفني أن يكون أبو سليمان قد مل منادمتي، فهو
يحتال لي الحيل! وكنا مرة في موضع حشمة، وفي جماعة كثيرة، والقوم سكوت، والمجلس كبير،
وهو بعيد المكان مني. وأقبل على المكي وقال، والقوم يسمعون، فقال: يا أبا عثمان،
من أبخل أصحابنا؟ قلت: أبو الهذيل. قال: ثم من؟ قلت: صاحب لنا لا أسميه. قال
الحزامي من بعيد: إنما يعنيني! ثم قال: حسدتم للمقتصدين تدبيرهم، ونماء أموالهم،
ودوام نعمتهم. فالتمستم تهجينهم بهذا اللقب، وأدخلتم المكر عليهم بهذا النبز.
تظلمون المتلف لماله باسم الجود، إدارة له عن شينه، وتظلمون المصلح لماله باسم
البخل، حسدا منكم لنعمته. فلا المفسد ينجو، ولا المصلح يسلم.
قال أبو عبيدة: بلغ خالد بن عبد الله القسري أن الناس يرمونه
بالبخل على الطعام. فتكلم يوماً، فما زال يدخل كلاماً في كلام، حتى أدخل الاعتذار
من ذلك في عرض كلامه. فكان مما احتج به في شدة رؤية الأكيل عليه، وفي نفوره منه،
أن قال: نظر خالد المهزول في الجاهلية يوماً إلى ناس يأكلون، وإلى إبل تجتر. فقال
لأصحابه: أتروني بمثل هذه العين التي أرى بها الناس والإبل؟ قالوا: نعم. فحلف
بإلهه ألا يأكل بقلاً، وإن مات هزالاً.
وكان يغتذى اللبن،
ويصيب من الشراب. فأضمره ذلك وأيبسه. فلما دق جسمه، واشتد هزاله، سمي المهزول.
ثم قال خالد: هأنذا مبتلي بالمضغ، ومحمول على تحريك اللحيين، ومضطر
إلى مناسبة البهائم، ومحتمل ما في ذلك من السخف والعجز. ما أبالي! احتمله فيمن ليس
لي منه بد، ولي عنه مذهب. ليأكل كل امرئ في منزله، وفي موضع أمنه وأنسه، ودون ستره
وبابه.
هذا ما بلغنا عن خالد بن عبد الله القسري واحتجاجه.
فأما خالد المهزول فهو أحد الخالدين. وهما سيدا بني أسد.
وفيه وفي خالد بن نضلة يقول الأسود بن يعفر: وقبلك مات الخالدان كلاهما. عميد بني
جحوان وابن المضلل.
إرسال تعليق